ثمة شعارات ومواصفات لتحديد لبنان وميزاته وفرادته. نتباهى، على سبيل المثال، بأن في البلد حركة دائمة ومتجددة فلا يشعر أناسه بالضجر. هذه الظاهرة تعني ان المشكلات فيه تتراكم والمشكلة الجديدة لتنسينا القديمة وتحل محلها، ويصير حلّ المشكلة في تأجيلها.
عملاً بهذه القاعدة ساد اعتقاد بأن الوقت غير مؤات لايجاد حلول بعيدة المدى للمشكلات التي نعاني. إن التذرع باعطاء الاولوية للتعاطي مع الصراع الاقليمي ومواجهة مخاطره او معالجة اضطرابات أمنية داخلية لم يعد عذراً مقنعاً لحرمان الوطن من اصلاحات جذرية وصياغة رؤية واضحة للمستقبل.
فالاضرابات التي شهدناها تتعاطى بطريقة غير مباشرة مع هذه الشعارات المذكورة، وهيئة التنسيق النقابية ومؤيدوها باتوا محور هذه الهواجس. وضعوا نصب أعينهم عدم التراجع حتى تحقيق مطالبهم. والحقيقة ان تراجعهم كان يعني تعثر مسيرتهم. واليوم، رغم كل التوترات الاقليمية والامنية ومسألة الانتخابات النيابية المحتملة، فقد قرر المشاركون في التظاهرات ان تأمين حياة كريمة لهم صار مسألة لم تعد تحتمل الانتظار، فقد حان وقتها وهذا الوقت هو الآن.
رغم ان هذه التظاهرات كانت نتيجة مطالب مالية محقة فقد تطورت الى رفض النظام القائم وممارساته الخاطئة. هذا النظام السياسي والاقتصادي أدى الى تفشي الفساد والمحسوبية بشكل خطير، الى ارتفاع نسبة الفقر والى تراجع الطبقة الوسطى. محاولات تحقيق توازن اقتصادي تمثلت – ماضياّ – في التجربة الشهابية، التي ركزت على المساواة في النمو وبناء دولة حقيقية. محاولاتها تخطي العلاقات الاقطاعية بين السياسيين وناخبيهم باءت بالفشل.
اليوم، ان ما وصف “بالنموذج اللبنابي” يتعرض لتحديات على مستوى الوطن، وقد بدأت هذه المرّة من القاعدة الشعبية، من المواطنين، دفاعاً عن حقوقهم وسعياً وراء العدالة والكرامة.
نمر بمرحلة بالغة الدقة تستدعي مواجهة الازمة وتقييم واقعنا. أوليغارشية ذات جذور طائفية عمادها ما يدعونه “العائلات السياسية”، تجمع كبار التجار والمصالح الكبرى، يتضامنون بعضهم مع بعض ويشكلون شبكة يعتبرون أن المس بها وبامتيازاتها هو من المحظورات، والنتيجة هي حصر الازدهار الاقتصادي بفئة قليلة معينة فلا تقطف ثماره بقية مكونات المجتمع اللبناني.
هذه الرؤية الجديدة التي نحن في صددها، والتي تدعو لها وتبشر بها نخبة لبنانية عابرة للطوائف والمذاهب، تتجاوز ما هو يمين وما هو يسار، ما هو اشتراكي وغير عقائدي وانظمة، باتت القضية ذات صلة بخلق مجتمع عادل وآمن يقتدي بما وصلت اليه مجتمعات متحضرة كالاحزاب الديموقراطية-الاجتماعية في الدول الاسكندينافية، أو أنظمة الرعاية في اوروبا الغربية واليابان. انها عملية بحث عن توازن ما بين اقتصاد السوق، المنافسة غير المنضبطة وخلقية العمل والعدالة التي هي مفتاح الديموقراطية الحقيقية.
النظام اللبناني الذي يرعى الحياة الاقتصادية – الاجتماعية متجذر في النصوص والنفوس. الحقيقة انه لا يمكننا الفصل ما بين القضايا الاقتصادية والسياسية، وخصوصاً في لبنان. ولا ريب في أن نتائج هذه التغييرات تنعكس على العلاقات بين الطوائف. وبينما نشهد الحوادث الاليمة في صيدا وطرابلس، فاننا نتساءل ألم تكن الامور على مزيد من سهولة الحل لو ان ثمة دولة قوية وعادلة يثق بها ويرتاح لها كل المواطنين اياً كانت دياناتهم ومذاهبهم؟
مارينا شمّا